Wednesday 23 July 2008

حجة الكلام الكونية



من الحجج القوية على وجود الله الحجة الكونية المسماة بـ "حجة الكلام" . هذه الحجة لها تراث إسلامي غني يعود إلى الفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى أمثال الغزالي رحمه الله، ومن هنا جاء اسمها العربي "الكلام" والذي يتم تعميمه اليوم من قبل المسيحيي الإنجيليي د. كريغ (W. L. Craig).

ما يميز حجة الكلام عن الحجج الكونية الأخرى، هو أنها تفترض أن هناك شيئاً موجوداً ومن ثم انطلاقاً من وجوده تثبت وجود مسبب أول متجاوز.

وقد تم مؤخراً إحياء شعبية هذه الحجة من قبل فلاسفة المسيحية المعاصرين. وثمة ملاحظة أخرى نذكرها هنا، وهي أن دوكينز في كتابه الشهير "وهم الإله" يتجنب ذكر هذا النسخة تحديداً من الحجج الكونية ويركز بدلاً من ذلك على صيغ أخرى بدائية إلى حد ما. وربما يعود ذلك إلى حقيقة أن حجتة المضادة الرئيسية التي مفادها "أنهم ( أي أصحاب الحجج الكونية) يفترضون افتراضاً غير مبرر إطلاقاً بأن الله هو نفسه في مأمن من التراجع اللانهائي( infinite regress)" لا ترقى إلى كونها حجة مبطلة لحجة الكلام الكونية.

صيغة حجة الكلام بسيطة وهي كالتالي:

1. كل ما توجد بداية لوجوده، يوجد مسبب لوجوده.

2. الكون بدأ في الوجود.

3. بالتالي، فإن الكون له مسبب.

الفرضية الفلسفية (1) هي مبدأ أول في الميتافيزيقا (فرع الفلسفة الذي يبحث في ما هو موجود) والذي وصفه أرسطو على أنه علم الوجود. والتسليم بصحة هذه الفرضية يبدو بالتأكيد أكثر عقلانيةً من إنكارها.. فكرة أن الأمور يمكن أن تقفز الى حيز الوجود دون مسبب تبدو غير مبررة عقلانيا.ً فالوجود يأتي من الوجود، ومن العدم، لا يأتي سوى العدم. وكما قال أرسطو مرة : لا ينبغي العمل على إثبات مقترح باستخدام مقترح آخر أقل وضوحاً.
لقد نفى الملحدون تقليدياً الفرضية (2) مسلمين في المقابل بأبدية الكون. ولكن هناك أسباب وجيهة، فلسفية وعلمية على حد سواء، تدعو إلى الاعتقاد بأن الكون له بداية محددة. فلسفياً، تبدو فكرة الماضي اللانهائي سخيفة. حيث إنه إن لم يوجد بداية محددة للكون، فإن عدد الأحداث الماضية في تاريخه سيكون لانهائياً، مما يثير إشكالات لا يمكن لمؤيدي أبدية الكون تجاوزها. كيف يمكن للحدث الحاضر أن يتحقق بوجود عدد لا نهائي من الأحداث السابقة له والتي يجب أن تنقضي أولاً ؟ إن أي حدث يتم اختياره بشكل عشوائي ستسبقه سلسلة لانهائية من الأحداث الماضية. ومن المفارقات أنه في هذا السيناريو المعطى فإن الحاضر لن يتحقق أبداً. وتعرف هذه المشكلة بـ "مشكلة عبور اللانهاية" ( traversing the infinite ).

إضافة إلى ذلك، فقد بعثت سلسلة مميزة من الاكتشافات في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية على مدى القرن الماضي الحياة مجدداً في حجة الكلام. لدينا اليوم أدلة قوية على أن الكون ليس لانهائياً في ماضيه، بل كانت له بداية حاسمة قبل 13.7 بليون سنة تقريباً في حدث خارق معروف باسم ‘الانفجار العظيم‘.

حتى عام1920، اعتبر الكون أبدياً ومستقراً في بنيته. وفي عام 1929 وجد الفلكي الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) أن الضوء المنبعث من المجرات البعيدة أشد احمراراً من ذلك المنبعث من المجرات الأقرب إلينا. والسبب في ذلك-يوضح هابل- أن هذه المجرات البعيدة تتحرك مبتعدة عنا. ومن ثم، فإن الكون آخذ في التوسع.

من المعروف منذ زمن طويل أن موجات الضوء المنبعثة عن مصدر آخذ في الانحسار تمتد وبالتالي تتحول باتجاه النهاية الحمراء من الطيف. وقد وجد هابل أن الانزياح الأحمر يزداد كلما كانت المجرة أبعد عنا وأن هذا الأثر يحدث في كل الاتجاهات. أبسط تفسير لهذه الحقائق هو أن المجرات تتباعد عنا في شكل من التوسع الفضائي. ومعنى هذا التوسع أن بنية الكون كانت مضغوطة أكثر في الماضي وأن هناك نقطة رياضية محددة بدأ عندها الكون وأخذ في التوسع انطلاقاً منها منذ ذلك الحين. وهذا يعني أن الكون بدأ بانفجار واسع في وضعية شديدة الكثافة، وهو الحدث المعروف باسم الانفجار العظيم.

يقول الفيزيائي البريطاني دافيس (PCW Davies):

"إذا استقرأنا هذا التوقع إلى مداه الأقصى، سيؤدي بنا ذلك إلى استنتاج وجود نقطة معينة في الماضي تتقلص عندها جميع المسافات في الكون إلى الصفر. ومن ثم وجود متفردة كونية تشكل حداً زمنياً أقصى للكون. ولن يمكننا الاستمرار في المنطق المادي أو حتى مفهوم المكان والزمان بوجود حد كهذا. لهذا السبب، فإن معظم علماء الكون ينظرون للمتفردة البدائية على أنها بداية الكون، وتبعاً لهذه النظرة يمثل الانفجار الكبير حدث الخلق ليس فقط لكامل المادة والطاقة في الكون، بل حتى للمكان والزمان نفسهما".

P. C. W. Davies, "Space & time Singularities in Cosmology," in The Study of Time III, ed. J. T. Fraser (Berlin: Springer Verlag, 1978), pp. 78?79.

الاكتشاف الثاني الذي عزز بشدة حقيقة أن الكون بدأ في الوجود هو نظرية "الإشعاعات الخلفية الكونية" CMB ‘cosmic microwave background’. حصل هذا الاكتشاف عام 1967، عندما اكتشف مهندسَي الراديو أرنوس بينزياس وروبرت ويلسون مصادفة أشعة قادمة من الفضاء تم تصنيفها على أنها أثر متبق من آثار الانفجار العظيم. إذا كان الكون في وقت ما في وضعية كثافة عالية جداً، فلا بد أنه قد كان حاراً جداً حيث أن حرارة المادة ترتفع بارتفاع ضغطها. وبما أن المواد الساخنة تبعث إشعاعاً حرارياً فيمكننا أن نتوقع أن الحرارة المتبقية من ولادة الكون لازالت تسبح في الكون حتى اليوم على هيئة وهج خافت من الإشعاع. وهذا ما أكده اكتشاف "الإشعاعات الخلفية الكونية".

بما أن حجة الكلام الكونية سليمة منطقياً، فإن صحة الفرضيات تقتضي صحة الاستنتاج بالضرورة. وبالتالي إذا صح أن الكون بدأ في الوجود إضافة إلى ما تأكده معرفتنا الميتافيزيقية من أن الأمور لا تقفز ببساطة الى حيز الوجود من اللا شيء، ينتج عن ذلك أن الكون له مسبب خارج المكان والزمان.

No comments: