Sunday 29 June 2008

رؤية فلسفية حديثة في تحدي القران المعجز _ معجزة القران

رؤية فلسفية حديثة في تحدي القران المعجز _ معجزة القران

تبذل العديد من الجهود لتجلية القرآن على أنه معجزة من الناحية اللغوية. وبالرغم من وفرة الدراسات القرانية، إلا أنه ليس هناك تفسير موجز يوضح أين تكمن المعجزة القرانية تحديداً من خلال توظيف الدراسات القرانية الحديثة واستخدام مفهوم محدد للمعجزات في فهم التحدي القراني. وفي ضوء صيغة جديدة لمفهوم المعجزة يمكننا أن نصوغ نقاشاً أقوى حجة يلخص المعجزة القرانية بكليتها.

يخبرنا مؤلف القران أنه كتاب موحى من االسماء، وبالتالي فقد أقحم الله المششكين بالقران في تحد لدحضه، حيث تحدى القران البشرية بأن تضاهي النص القرآني وأن تأتي بمثله ولو في أقصر سورة بحيث يقود عجزهم عن ذلك منطقياً إلى الاعتراف بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب.

(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) (1)

يأمر الله الإنسانية هنا على سبيل التحدي و للبرهنة على مصدر القرآن الإلهي أن تحاول الإتيان ولو بجزء من مثله، واستحالة ذلك تقتضي ضمناً إقامة الدليل على أن هذا القران ليس من قول بشر وإنما هو وحي يوحى.

إذا كان القرآن معجزة، فما هي إذن العوامل التي تحدد إعجاز القرآن؟ تعتمد اللغة العربية على ثمان وعشرين حرفاً بالإضافة إلى عدد محدود من الأبنية النحوية، وهذا العدد المحدود من الأحرف والأبنية يسمح لأي تعبير في اللغة العربية بالتشكل إما في قالب شعري أو نثري.

والشعر وسيلة تعبيرية تخضع لمقاييس الوزن والقافية وتوظف أنماطاً إيقاعية محددة وصارمة، حيث أن موسيقى الشعر العربي تخضع لتقسيم إيقاعي يسمى "البحر". وهناك ستة عشر بحراً موسيقياً في اللغة العربية وهي: الطويل، البسيط، الوافر، الكامل، الرجز، الكفيف، الهزج، المتقارب، المنسرح، المقتضب، المتدارك، المديد، المجتث، الرمل، الخبب، السريع. ومن منظور أدبي فإن أي قصيدة شعرية لابد أن تبنى على أحد هذه البحور الموسيقية وتلتزم به. (2)

أما النثر العربي فيسمى بالكلام المنثور (غير المنظوم)، مما يعني أنه لا يخضع للأنماط الموسيقية كالشعر، كما هو موضح أعلاه. والنثر العربي ينقسم إلى قسمين: المسجوع وهو النثر الذي فيه إيقاع، والمرسل وهو النثر الخالص الذي يخلو من الموسيقى والإيقاع. والإيقاع في السجع يوظف بشكل غير منتظم مما يجعله مختلفاً عن البحر.(3) أما المرسل فهو الشكل الأدبي الذي يستمر الكلام خلاله باسترسال دون تقطيع إيقاعي أو غيره، وهو يوظف في اللغة اليومية المحكية.(4)
وصفت الدراسات الحديثة على أيدي باحثين عرب معاصرين الأسلوب القراني على أنه شكل فني فريد. وبرغم أن بعض الآيات قد تتلاءم وإيقاع بحر معين إلا أن السورة بأكملها لا يمكن أن تقسم وفقاً لتقسيم البحور.

تقول كريستينا نيلسون ( Kristina Nelson): "وبرغم أن بعض مقاطع القرآن من الممكن تقطيعها وفقاً للبحور الشعرية إلا أنها لا تمثل طبيعة أنماط المقاطع الايقاعية القرانية بقدر ما هو اجتزاء أبتر للأنماط الإيقاعية." (5)

ولفهم هذه الخاصية القرانية لابد من النظر إلى النص القراني على أنه دمج أو مزج فريد بين الايقاعي وغير الإيقاعي، مما يخلق نموذجاً فذاً لا يمكن إدراجه تحت بحور الشعر، أو تحت النثر المرسل. لقد أدرك الباحثون في اللغة العربية من غير المسلمين خصوصية هذا النموذج المتفرد، وأكدوا أصالة النموذج القراني، بل ذهبوا أحيانا أبعد من ذلك فوصفوه بأنه نموذج من المستحيل مضاهاته.
"إن أبلغ كتاب العرب لم ينجحوا في الإتيان بمثل هذا القران" (6)

"لقد خاض بعضهم التحدي في عهد محمد عليه السلام، لكن محاولات تقليد القران الباقية، والمحاولات الساخرة المستهزئة من اللاحقين الذين كان من بينهم أسماء بارزة حاولت مضاهاة إبداع النصوص الإسلامية المتفردة، كل هذه المحاولات في القديم والحديث لم تؤثر قيد أنملة على حقيقة تفرد القران وإعجازه."(7)

"القرآن نص لا يضاهى، لا من حيث قوة حججه وبراهينه، ولا من حيث بلاغته وبيانه، ولا من حيث تركيبه ونظمه."(8)

"ومن وجهة النظر الأدبية، يعتبر القران نموذجا للغة الفصحى الخالية من أي شوائب، ولذلك اعتمد النحاة على تعابير وتراكيب معينة من القرآن في التقعيد للنحو العربي، كما باءت كل المحاولات لإنتاج نص في إبداعه وتفرد أسلوبه بالفشل" (9)

"لذلك ليس هناك أي احتمال في وجود تزييف أو خداع في النص القراني، وهذا ما يجعله متميزاً عن النصوص الدينية الأخرى. وإنه لمن الاستحالة بمكان أن هذا الرجل الأمي استطاع أن يؤلف كتاباً هو الأفضل في اللغة". (10)
"وحينما كان يطلب من محمد أن يأتي بمعجزة لإثبات صدق رسالته، كان يجيب بأن هذا الكتاب المعجز المبين هو الدليل على مصدرها الإلهي، وفي الواقع فقد أذهلت لغة القرآن البديعة حتى غير المسلمين، و قد سلب بكماله المتجانس وجاذبية موسيقاه وسهولة أدائه لب ذلك الشعب الفطري المولع بالبلاغة. إن سعة مقاطع كلماته، وتدرج إيقاعاته ونغمته المميزة كان لها أكبر الوقع في التأثير على أشد الناس عدائاً وأكثرهم شكاً " (11).

وخصوصية القران لا تنبع فقط من لغته الفريدة، وإنما من الانسجام بين أسلوبه الفريد و رسالته الكلية المتناغمة. وقد يدعي البعض أن استحالة مضاهاة القران سببها أن التحدي مبني على معايير غير موضوعية، حيث أنه متعلق باعتبارات جمالية بحتة، إنه بمثابة التحدي الذي يواجهه الفنان لو طلب منه أن ينتج عملاً فنياً مماثلاً لعمل فني آخر هو أكثر التزاما بالمعايير الجمالية الموضوعية. ولأن الجمال أمر نسبي في النهاية ، لا يمكن لهذه المهمة أن تتم. ولو أن القرآن صاغ التحدي على هذا النحو، لكان النقد صائباً في أن أي عمل عربي لن يستطيع دحض هذا النص. لكن وفقاً للعديد من الدراسات التي تتناول جماليات النص القراني وعمقه، لم يطلب الله سبحانه وتعالى مضاهاة الأسلوب الجمالي في القران، وإنما يتضح من الآية الكريمة "فأتو بسورة من مثله"، وفي ضوء ما سبق شرحه، أن المقصود من التحدي مضاهاة البنية اللغوية أو النسق الأسلوبي. وبهذا يكون التحدي موضوعياً، وموضوعية هذا التحدي تظهر من خلال الاختلاف المحدد بين الشكل الأدبي للشعر و النثر.

إن أسلوب القرآن يتجاوز طاقات اللغة العربية، فثمانية وعشرون حرفاً وعدداً محدوداً من القواعد التركيبية تحكم طاقة اللغة الإبداعية، لكن الطاقة الإبداعية للغة القرآن تتجاوز طاقات اللغة فتنتج كلاما يضم الأسلوب النثري المسجوع والمرسل والإيقاع الشعري المتمثل في البحور، دون أن يخضع لأي منها. لكن كل النصوص السابقة للقران والتي جاءت بعده لم تخرج عن هذين التصنيفين الشعر والنثر.

إن أسلوب القرآن لا يمكن أن يخضع للتصنيفين المحددين في اللغة العربية، ما يعني أن هذا الأسلوب الفريد يتجاوز طاقات اللغة، مما أثبت إعجازه على مدى 1400 سنة. وبذلك يكون من المنطقي التصديق بأنه وإن كان من المستحيل ظهور القرآن بشكل طبيعي، فبالنظر إلى محدودية اللغة العربية، يبدو التفسير الإعجازي لمصدر القرآن أكثر التفاسير منطقية.

بإمكاننا أن نلخص نقاشنا السابق كما يلي:

1) الشعر والنثر هما الشكلان اللذان تشملهما طاقة اللغة العربية.

2) الأسلوب القرآني جاء فريداً ومتميزاً، فهو لا يخضع لأي من الأنواع الأسلوبية في اللغة.

3) وبذلك يتجاوز القرآن طاقة اللغة العربية الإبداعية.

بما أن الفرضيات الثلاثة صحيحة ، فإن النتيجة ( 4) هي صحيحة بالضرورة.













No comments: